محاضرة الدکتور طلال عتریسي

ألقی الدكتور طلال عتریسي، الأستاذ في جامعة لبنان کلمته عن «المباني المرجعیة لحقوق الإنسان في الإسلام» في ندوة افتراضية بعنوان «حقوق الإنسان في الإسلام: الواقع والتحديات» يوم الثلاثاء 4 من أغسطس 2020. وذکر في هذه المحاضرة ما یلی:

 

          تتناول الیوم الوثائق الدولیة موضوع حقوق الإنسان وتستخدمه بعض الدول الغربیة ذریعة للتدخل في شئون الدول الأخری، وهذه الحقوق غیر محددة بالنسبة إلی هذه الدول علی الرغم من إعلان العالمي لحقوق الإنسان. هذا النوع من التدخل ترک انطباعاً سلبیاً عند معظم شعوب العالم بحیث أصبحت تربط بین الحقوق الإنسان وبین التدخل الخارجي في بلداننا. لکن الحقیقة هي أن حقوق الإنسان لیست کذلک ولیست ذریعة للتدخل الغربي الأمریکي في بلادنا.

          الثورة الفرنسیة التی حصلت في سنوات الأخیرة من القرن الثامن عشر (1789 میلادیاً) تُعتبر الأساس الذي استند إلیه لاحقاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأن هذه الثورة رفعت شعارات الحریة والأخاء والمساواة. في حقیقة الأمر، لم یطبق هذا الشعار وبقیت المشاکل واستغلال الفقراء و الملکیة السائدة والنبلاء یحکمون. والمرجعیة التی استندت إلیها هذه الشعارات هي الواقع الذي کان یعیشه الناس في فرنسا.

          کذلک الأمر بالنسبة إلی الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هناک فرق یطول 159 سنة بین حقوق الإنسان في دستور الثورة الفرنسیة (الحریة والأخاء والمساواة) وبین الإعلان العالمي عام 1948. لماذا کل هذا التأخیر؟ لأن العالم (أروبا تحدیداً) کانت تخوض حروب دامیة قتل خلالها عشرات الملایین من البشر. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان کان نوع من التوافق بین هذه الدول لوقف الحرب و لمنع القتل واحترام حق الحیاة. ولهذا السبب نلاحظ أن حقوق الإنسان تطورت في الغرب بدءاً من حق الحیاة وحق الحریة إلی الحق في بیئة آمنة ونظیفة والحفاظ علی التراث الثقافي. کل هذه التفاصیل الأخری التي کان یواجهها الإنسان من مشکلات معقدة أنتجتها طبیعة الحیاة ومشکلات الحکومات والفساد و تلوث البیئة و ما شابه ذلک. إذن هذه الحقوق العالمیة التي أعلنت مرجعیتها من الأمم المتحدة، کانت مرجعیتها مشکلات المجتمع. هذه المرجعیة هي مرجعیة البشر ومرجعیة مایجري في المجتمع ومرجعیة مشکلات التي تواجهها الناس ومرجعیة التحولات و حتی في بعض الأحیان الإنحرافات التي تحصل في المجتمع. لذلک کانت الأمم المتحدة ترید أن تشرع و تعطي حق المساکنة وحق الأسرة من جنس واحد وحق التبني.

          هذه المقدمة تقول أن مرجعیة حقوق الإنسان في المنظور الإسلامي لاتبدأ من الواقع المجتمعي، بل إنما تبدأ من البُعد الإلهي للإنسان. القرآن الکریم یشیر إلی تکریم بني آدم: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[1]». نقطة الإنطلاق هي تکریم هذا الإنسان بغض النظر عن المشکلات والمجتمع الذي یعیش فیه والحروب و الثورات و الإنقلابات والتلوث وما شابه ذلک. فالإسلام ینطلق من نقطة إلهیة وهو تکریم بني آدم بغض النظر عن عرقه و لونه و جنسه. احتاج العالم والغرب خصوصاً عقود من السنین لکي یعترف باللون الأسود والحق الإنساني للأسود في أن یعیش مثل الأبیض. إذن هذه نقطة أساسیة أن الإنسان أصلا مکرما في المنظور الإلهي. هذا أمر أصلي طبیعي رباني لم یعطیه أحد من البشر للبشر. هذه نقطة انطلاق لحقوق الإنسان في الإسلام.

          النقطة الثانیة والوجه الآخر لهذه المسئلة هي أنه غیرمسموح للإنسان أن یذل نفسه لأن الله سبحانه و تعالی کرمه و بالتالي لایجب علیه أن یذل نفسه. اذا کان الشخص مستضعفاً و یمکن أن یهان في المکان الذي یعیش فیه، علیه المهاجرة کما یقول الآیة الکریمة: «أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا[2]» یعني علیه أن یترک المکان الذي یمکن أن یذل فیه. قال الله تعالی في القرآن الکریم: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[3]» یعني عزة المؤمنین من عزة الله سبحانه و تعالی. فلیس مسموحاً للإنسان أن یکون ذلیلاً لأن الله لایرید ذلک وهو مصدر العزة و الکرامة.

          المسائل الأخری التي تتعلق بمرجعیة التکریم هي أن الإسلام منع الشخص من قتل نفسه. هذه المسئلة لاتوجد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان یتحدث عن حق الإنسان للحیاة بمعنی أنه یجب أن نوفر للإنسان المتطلبات الغذائیة والمادیة والسکن والرعایة في مرحلة الطفولة و یکون له عائلة تحتضنه. هذا صحیح لکن الإسلام یحرم علی الإنسان قتل نفسه لأن هذه الحیاة، حیاته المکرمة وهي من روح الله: «فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا[4]» هذا یعني حیاة الإنسان هبة من الله سبحانه وتعالی وبالتالي لایستطیع الإنسان أن یفرّط فیها. إضافة إلی ذلک، لایجوز الإعتداء علی الآخرین أیضاً: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا[5]» في حین یجوز القصاص.

          تم تحریم الإجهاض في الإسلام لأن الشخص یقتل نفساً لیس مسؤول عن انشائها. لیس هناک التفات إلی هذه المسئلة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والیوم الإجهاض مسئلة عادیة وبسیطة وإداریة وقانونیة في العالم الغربي عموماً وباتت متاحة بشکل لم یکن کذلک قبل خمسین سنة علی سبیل المثال. لهذا السبب تحدثت في البدایة عن أن بعض الحقوق تصبح مکتسبة حتی ولو لم تکن موجودة في السابق وحتی لو لم تکن صحیحة إخلاقیاً. إذن حتی قتل النفس بالاجهاض ممنوع إلا اذا کان حیاة الأم مهددة. نلاحظ هنا الفرق بأن حیاة الأم هي الأساس المحافظ علیها وحیاة الجنین مهمة، لکن لایجب أن تمنع حیاة الجنین حیاة الأم. هذه المقارنة الدقیقة لأن حق الحیاة هو معطی إلهي لا نلحظه في حقوق الأخری. إذن هذه الحقوق هي حقوق إلهیة ولیست هي حقوق وضعیة؛ یعني لیست الأم أو الأب هو من یقرر أن یحتفظ بهذا الولد أو یتخلص منه. المسئلة لیست بهذه الطریقة. الحقوق الإنسان في المنظور العالمي تقف عند حقوق الآخرین، یعنی تنتهي حریة الشخص عندما تبدأ حریة الشخص الآخر. هذا المنظور غیرموجود في الإسلام. هناک حدود إلهیة للحریة حتی لو لم تتجاوز حدود الآخر. لو کان الأم والأب وأهل الزوج والزوجة موافقون علی موضوع الإجهاض علی سبیل المثال، الإسلام یقول بحرمة الإجهاض. هذه الحدود، حدود قرآنیة وإلهیة ولیست حدود مجتمعیة.

          الإنسان مکرم لأنه سخر له ما في الأرض و ما في البحر وأعطی العقل کهبة إلهیة یستطیع من خلالها التمییز بین النجدین، لکن هناک مسئلة لافتة للنظر. عندما یقول القرآن الکریم: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[6]» یظهر أن الإنسان مکرم لکن هناک من هو أکرم من الآخرین والقاعدة في الکرامة لیس المال أو السلطة أو الملکیة أو الأصول الوراثیة بل التقوی. لهذه المسئلة علاقة بالجانب الأخلاقي والجانب العبادي والعلاقات مع الآخرین.

          الإعلان العالمي لحقوق الإنسان یری الإنسان والمجتمع والبیئة والإقتصاد والصناعة والحریات، لکن لایری الله في هذه الحقوق. قال الله تعالی في القرآن الکریم: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[7]» فلعبادة حق الله علی الإنسان کما التکریم والأفضلیة حق الإنسان علی الله وکأنما نوع من التوازن في هذه الحقوق حتی لایطغی الإنسان. العبودیة هي التی تمنع عن تحول هذه الحقوق إلی طغیان. یحتاج البعد الإجتماعي إلی الربط بهذه المرجعیة القرآنیة أیضاً. الإسلام ینظم الحقوق في علاقات الناس مع بعضها البعض ویضع أولویات لهذه الحقوق. هناک حق لله سبحانه وتعالی في علاقة الإنسان مع خالقه وفي علاقة الإنسان مع غیره من البشر ومن الأقارب ومن الأرحام. هذا أیضاً لا نراه في أي مکان آخر من أنظمة الحقوق العالمیة.

          حق البیئة والکائنات الأخری من النبات والحیوان مهم أیضاً. بما أن الإنسان هو المحور فإذن هو یتحمل هذه المسؤولیة أن لایؤذي الحیوان والنبات والزرع وأن یستخدمه من أجل اعمار الأرض ولیس من أجل الحروب والقتل وسفک الدماء. ثم توضع بعد ذلک القوانین ما بعد القتل وسفک الدماء والتلوث والصناعات وما شابه ذلک.

          یمکن الإستنتاج حتی في العلاقات مع الآخرین کما قال القرآن الکریم: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم ٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[8]» یعني هناک حق للفقراء والمساکین والأیتام في أموال المیسورین. هذا یعید التوازن إلی المجتمع ویقلل من مشکلات الإقتصادیة والفقر. الأمم المتحدة منذ أکثر من عشرین عام تعقد المؤتمرات وتصدر التقاریر لمعالجة موضوع الفقر وتقول بعد عشر سنوات سنکون قد عالجنا نسبة الفقر بنسبة کذا في المئة. بعد عشر سنوات، تصدر تقاریر جدیدة تتحدث عن زیادة مستوی الفقر في العالم. هذا لأننا نعیش في نظام من التوحش الإقتصادي والنهب.

          فمرجعیة الحقوق في الإسلام لیست مرجعیة وضعیة ولم تبنی علی ماجری في فترة معینة في حیاة البشر أو مجتمعات ثم صدرت تلک الحقوق. ما اقترحته الجمهوریة الإسلامیة من تسمیة یوماً بیوم الحقوق الإنسان الإسلامیة و الکرامة الإنسانیة مهم جدا، لأن الکرامة الإنسانیة لها هذا البعد القرآني في آیات التي ذکرناها. ربما هذا النوع من الکرامة الإنسانیة أکثر عمقاً من موضوع الحقوق وربما تکون الحقوق تحت الکرامة وبند من بنود الکرامة الإنسانیة. فکرامة الإنسان هي المنظور والبعد إلهي في حین أن الحقوق قد یکون بعدها بشري وضعي أکثر مما هو إلهی.

[1]. سورة الإسراء، الآیة 70

[2]. سورة النساء، الآیة 97

[3]. سورة المنافقون، الآیة 8

[4]. سورة التحریم، الآیة 12

[5]. سورة المائدة، الآیة 32

[6]. سورة الحجرات، الآیة 13

[7]. سورة الذاریات، الآیة 56

[8]. سورة المعارج، الآیة 24 – 25

Exit mobile version