محاضرة الدکتور فوزي العلوي

ألقی الدكتور فوزي العلوي، الأستاذ في جامعة الزيتونة محاضرتة عن «الحریة في الإسلام» في ندوة افتراضية بعنوان «حقوق الإنسان في الإسلام: الواقع والتحديات» يوم الثلاثاء 4 من أغسطس 2020. وذکر في هذه المحاضرة ما یلی:

 

          هذه المحاضرة في سیاق مقارن بین منظومة الحقوق الإنسانیة ولاسیما مفهوم الحریة کقیمة أساسیة و حق أساسي ضمن هذه المنظومة بین المرجعییتن الغربیة والإسلامیة. عبّر هربرت مارکوزه عن التمثل الذي صاغته الثقافة الغربیة لإنسان بأنه کائن ذو بعد واحد. إذن هذا الکائن ذو بعد واحد، أي هو کائن یعبّر عن طبیعة مادیة دهریة غرائزیة لاوجود فیها لأبعاد أخری معنویة روحیة مجردة. مثل هذا التمثل للإنسان، هو محل اجماع في کل المدارس والمرجعیات الفلسفیة سواء کانت مثالیة أو مادیة. فالمنطلق واحد و الأرضیة واحدة في استحضارها لحقوق الإنسان وهو التأکید علی بعد واحد.

          أساس هذا النظر الإنساني والذي ستأسس علیها الرؤیة الأخلاقیة والقیمیة بما في ذلک القیمة الحریة تستند إلی مفهوم «القطیعة». القطیعة هنا بین الإنساني والإلهي وبین الفردي والجمعي وبین المقدس والدنیوي. سیحکم منطق القطعیة فهم الغربي للإنسان ککائن ینشد الحریة و التحرر. کذلک هناک سمة أخری وهي سمة مادیة أي أن الرؤیة الدهریة المادیة ولاسیما الوضعیة خاصة في دلالات أوغست‌کونت في فهمه للحضارة والإنسان أن الإنسان هو کائن وضعي ویجب أن یخضع إلی التخطیط التجریبي العلمي الذي انتصر علی مراحل اللاهوتیة ومتافیزیقیة.

          یستعید هیغل هذا الفهم للإنسان والإنساني في استحضاره لدلالات الوعي الإنساني وملامحه وینتهي إلی القول بأن الفلسفة بنت الحریة السیاسیة، أي أن الحریة في سیاقاتها الهیغلیة، لایمکن أن تتجسد إنسانیاً إلا متی ما اعتمدنا تمثل مثالي لرؤیة حکمیة غارقة في التعالي. وجد هیغل التمثل السیاسي للحریة وللإنسانیة في مفردة سیاسیة ویعتبر أن اکتمال العقل واکتمال الروح البشري هي في الفلسفة السیاسیة وفي الدولة البروسیة تحدیداً وفي الإنسان الجرماني تحدیداً الذي تکتمل فیه المعالي الإنسانیة. إذن قد تم بناء معالم الإنسان الغربي في سیاق هذه النزعة الفردیة الأنانیة النرجسیة المنغلقة علی نفسها والمکتفیة بها والمعتبرة نفسها ذات في مقابل الآخر الذي هو عرض ولایتمتع بأصالة وجودیة.

          مثل هذه النزعة التفوقیة والإثنینیة المتفاوتة بین ذات مرکز و آخر عرض عبّرت عنها اللیبرالیة السیاسیة والرأسمالیة الإقتصادیة الغربیة کما عبّرت عنها المقاربة الشیوعیة بکل أطیافها ودرجاتها. أسست المنظومة الفکریة والقیمیة علی جدلیة الحق والقوة. لاینفک التمثل للإنسان وبحث عن الحقوق في دائرة الثقافة والمرجعیة الغربیة عن عنصر القوة وعن العنف مطلقاً. کما یقول لایبنتز، مفهوم الحریة في سیاق الغربي مفردة ولفظ ملتبس ولم تستطع فلسفات الأخلاق الغربیة أن تبین دلالاته بدقة وبوضوح. یشیر مونتسکیو في کتاب «روح الشرائع» إلی هذه المعالم ویقول هناک تعدد دلالات الحریة وهو ما یمنع قصداً إلی بناء تمثل واضح وتحدید وتدقیق لهذه المفردة.

          أما دیکارت في تمشیه المثالي العقلاني للحریة ضمن مرجعیة العقلانیة وتنویر الغربي، یری أن الحریة هي اختیار وعبّر بذلک عن توجه لیبرالي أسس لسیاق فرداني شخصاني لمفهوم الحریة. أما کانت رغم أنه یتفق العقلیة مع دیکارت لتمثل الحریة ضمن الأرضیة الغربیة إلا أنه یربط الحریة باستقلال ذاتي للإرادة. وهذا تعدیل أدخله کانت لیرتقي بالموقف البدیل الأخلاقي الذي قدمه (ولاسیما فهمه عن الحریة) إلی إعطائها بعداً وظیفیاً یتمثل في الإرادة الذاتیة. ثم یذهب کانت في تمثل آخر ویعتبر أن الحریة هي مطلب وهدف لیست واقعة وعلینا أن نتدرب علی مسار الحریة أي ما سیطلق علیه لاحقاً «التحرر».

          یفاجئنا سبینوزا بأن الحریة التامة وهم وأن نکون أحراراً بطریقة لاحدود ولاسقف ولاأرضیة لها هو توهم بالکامل. هذا رد طبیعي في سیاق آخر علی ما زعمه سارتر بأن الحریة هي مطلقة. إذن بین توهم الحریة لدی سبینوزا وأن الحریة مسؤولیة لدی سارتر تأتي دعوة ابیکتت وهو أن للحریة ثمن وهو شابه الإعتقاد بأن الحریة صنو للدیموقراطیة ولایمنکها أن یتحقق إلا في هذا المسار. فیأتي مارکس بالتالي لیشدد علی أن هذا الثمن لایمکن أن یکون إلا التحرر من أسر الضرورة الإقتصادیة وأعطی المجال لإنجلز الذي یقول بأن التحرر هو مسار مفتوح.

          الحریة ضمن المرجعیة المادیة الغربیة یستند إلی فهم وضعي وتمثل إنساني وتعبّر بذلک بالمفارقة أرادوا أن یرتفعوا بها إلی المعنی الإجماعي والمعنی الإطلاقي وهذه مفارقة لایمکن لماهو إنساني تاریخي محدود في الزمان والمکان أن یکون مطلقاً. هذا ما استدعی ضرورة التعدیل في فهم الحریة الغربیة واسقاطها علی الواقع الإنساني من حیث أنها مسار للتحرر من مظاهر الإستیلاء و الإغتراب. وذلک إحالة إلی التمثل المسیحي للحریة وللقیم من کون أن الإنسان هو محکوم بالشر وهو کائن شریر بأسره وأن الحریة کهدف وکغایة تظل مطلبا وهي موقف ولایمکنها أن تکون غایة متحققة واقعیا.

          تتمثل مفهوم القیم ومنظومة الحقوق في السیاق الإسلامي في دائرة أخری لیست دائرة الواجب بقدر ما هي دائرة الحق ضمن ثنائیة الحق والباطل. إذن تربط المرجعیة الإسلامیة في تمثله لمفهوم الحریة ضمن ثنائیة الحق والباطل. وبالتالي تری المرجعیة الإسلامیة بتمشیاتها الکلامیة أو الفلسفیة أو العرفانیة إلی انشداد الحرکة التاریخية إلی قاعدة صراع الحق ضد الباطل. هذا الصراع، هو صراع أصیل وهو یستند إلی سنة أصیلة. هذه السنة هي التي أقام علیها الله سبحانه وتعالی الحیاة. تقول الآیة الکریمة: «كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّه الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ[1]» و آیة أخری: «وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ[2]» وتأتي هنا عملیة الفرز وتقول الآیة: «ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ[3]» إذن هنا المرجعیة الحقوقیة والقیمیة بما فیها مفهوم الحریة هي مرجعیة ربانیة. فالحریة هنا هي في طریق الحق وضمن مبدأ الصراع النهائي للحق ضد الباطل علیه أن تنشد إلی اتباع الحق کما أراده رب العالمین.

          لایمکن فهم الحریة إلا ضمن دائرة الإبتلاء. یقول الله تعالی: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[4]» إذن الحریة تستند إلی فلسفة وحکمة الإبتلاء. هنا یأتي منطق الصراع الأصیل بین الحق والباطل لیشیر أن العاقبة هي للحق دائماً وأن الإنتصار والفوز النهائي هو للحق والحریة أیضاً تکون عاقبتها الإنتصار للحق والحقیقة. فتقول الآیة الکریمة: « فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[5]» والآیة الآخری: «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ[6]» والآیة الآخری: «وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ[7]» «الکلمة» هنا إشارة إلی البرادیغم والمقوم الأساسي الذي یجب أن تستند إلیه الحریة وهو العدل. لایمکن للحریة أن تکون مفردة شائعة مطلقا لاحدود لها وتتنزل في إطار المفردة القرآنیة تحدیدا ضمن برادیغم العدل. یقول الله تعالی: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ[8]» وتقول الآیة الأخری: «وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ[9]» فأهل الحریة هنا السالکون بطریق العدل وبالتالي أهل العدل هم أهل الحق. تقول الآیة الکریمة: «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ[10]»

          وتصبح الحریة ضمن دلالات العدل التزاماً للأخلاق والمبادئ وبالحلال والحرام واحترام الآخر واحترام الخلق ورب الخلق. تقول الآیة الکریمة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ[11]» هناک تجلی الدلالات الإنسانیة والدولیة للحریة. الحریة في المرجعیة الغربیة سواء کانت لیبرالیة أو مارکسیة إنما هي معولمة تستند إلی فهم مخصوص للحریة مقطوعة تماما عن سیاقات العدل، في حین أن مفردة الحریة في الرؤیة الإسلامیة لاتتکامل وتستند وتتأسس وبالتالي تتموضع وتصبح سلوکاً وموقفاً إلا بشرط اعتمادها علی مرجعیة العدل وهنا إشارة إلی التصفیف القائم لدی الإمام علی للناس والإنسانیة: «الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق[12]» هذا التصفیف هو اقرار بالإختلاف والتنوع.

          فیجب أن تتأسس الحریة علی اقرار الشخص بالدیانات الأخری ولها الحق في التعبیر عن رؤیتها وتمیزها وقدرتها علی التفرد والتکامل مع الآخر وبالتالي هناک رفض بکل أشکال الإلحاق والسحق والوصایة والإستعمار. لذلک فإن السیاقات الحریة في المرجعیة الغربیة انتهت إلی تاریخ مسدود ورغم تعدیلاته من خلال تجدیدها والتعبیر عنها في سیاقات ما یسمی بالتحرر لم یشفع لها بأن تدافع عن نفسها مما آلت إلیه من مغالطات ومن مفارقات ومن سیاقات عبثیة وعدمیة. فهي لم تؤدي إلی احیاء الإنسان وإلی تکریمه بقدر ما حولته إلی لحظات من اللذة والإشتهاء وجعلته بضاعة وسلعة ورقم. هذا ما لایمکن أن یتماثل مطلقاً مع المرجعیة الإسلامیة في تناولها الحضاري لمفهوم الحریة الإنسانیة. لذلک رفض السیاقات الحریة في المنظومة المادیة الدهریة إنما یأتي في إطار تأصیل لسیاقات حریة حقیقیة قائمة علی المسؤولیة وقائمة علی العقل وقائمة علی الإرادة.

          وهنا رد مباشر علی ما انتهت إلیه العدید من قرائات الإستشراقیة خاصة للمدونة الإسلامیة لاسیما الأخلاقیة حین تنتهي إلی فهم مغالط من أن الإسلام قد أسقط من دائرته الإهتمام بالفرد وبالإنسان، وکأن الإنسان وجعلوه وحش ولایقیم وزناً لمعاییر الحریة والتحرر. بالعکس نری أن الحریة في الإسلام قد وازنت ووفقت بین ما هو فردي وما هو جماعي وبین ما هو دنیوي وما هو أخروي وبین ما هو مطلب حیوي مادي وما هو ارتقاء قیمي نحو المعراج السماوي للتأسي بمرجعیات النبوة وآل البیت وبسیر الأنبیاء والصالحین والمصلحین.

          إن مفهوم الحریة کما هو منصوص علیه في المدونة الإسلامیة الفقهیة والحقوقیة والفلسفیة والعرفانیة والعلوم الإنسانیة والإنسانیات إنما تعبر عن رؤیة تکاملیة ورؤیة تجمع بین الثنائیات في مزج یجعل من الإنسان کائن متوازن و متوازي. فهي تحقق للإنسان معالم الکرامة والتحرر وتمنحه الأنس والحیاة الکریمة والطیبة التي ذکرها القرآن الکریم. لذلک تأتي التکریم الإلهي لنا ککائنات حرة ومسؤولة ولایکون الحریة الحقیقیة إلا باستحضار سیاقات العدل. فیکون خلاص الحریة في سیاق عدالي وهو ما ننتظره مشروعاً عدالیاً تحرریاً کاملاً وننشده ونعمل من أجل تحقیقه.

[1]. سورة الرعد، الآیة 14

[2]. سورة الکهف، الآیة 56

[3]. سورة محمد، الآیة 3

[4]. سورة الملک، الآیة 2

[5]. سورة الأعراف، الآیة 118

[6]. سورة الإسراء، الآیة 81

[7]. سورة الشوری، الآیة 24

[8]. سورة البقرة، الآیة 26

[9]. سورة البقرة، الآیة 42

[10]. سورة الأعراف، الأیة 181

[11]. سورة الحجرات، الآیة 11

[12]. نهج البلاغة، رسائل، رقم 53

Exit mobile version